مكن للتاريخ أن يسجل أن الإنترنيت قد دشن لثورة جديدة في قيام الثورات عبر تسريبات موقع ويكيليكس الشهير، ويمكنه أن يسجل أن أول ثمرة لهذه الثورات قد نضجت في تونس،
وأن تونس هي أول بلد في العالم يقطف هذه الثمرة أن يمسك على هذه الجمرة (حسب النتائج)، وأنها أول بلد يدشن الدخول في هذه الثورة الجديدة كليا في الألفية الثالثة الجديدة، ثورة لا تقودها معارضة سياسية لا داخلية ولا خارجية ولا تشهر لها صحافة كلاسيكية وطنية أو دولية، ولكنها من صنع وقيادة آخر التكنولوجيات الحديثة ولم يطلع العالم عليها سوى بفضل عصارات هذه التكنولوجية من مواقع إنترنيت وكاميرات مثبتة على الهواتف الجوالة.
فما تشهده تونس هذه الأيام من أحداث غضب اجتماعي وسياسي تنتشر وتنتقل من منطقة إلى أخرى كما تنتشر النار في الهشيم، ما كانت لتحدث لو لم يقم موقع ويكيليكس بتسريب برقية قصيرة ودقيقة هي خلاصة لتقرير بعث به السفير الأمريكي في تونس إلى رؤسائه في الخارجية الأمريكية ومفاده أن الأوضاع في تونس متعفنة والفساد مستشر في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية نتيجة تحكم زوجة الرئيس التونسي وأصهاره في دفة هذا الفساد واستئثارهم الشخصي بالاقتصاد والأعمال والثروات الوطنية..
وما كان للعالم أن يعرف ما يحدث ويطلع عليه ويتابعه أولا بأول لولا وجود الإنترنيت والهواتف الجوالة المزودة بالكاميرات وآلات التصوير.صحيح أن التونسيين يعرفون ما يعانونه وما يعانيه بلدهم من هذا الفساد والتعفن الذي يزيد في تفاقم المشاكل الاجتماعية من بطالة وتدن لمستوى المعيشة قبل تسريبات ويكيكليكس بزمن بعيد، ولكن كان عليهم أن يظلوا خاضعين لثقل الحديد والنار التي تفرضها سياسة القمع الكلي المطبق على أي نوع من أنواع النشاط السياسي والاجتماعي، إلى أن تأتي هذه الصدمة أو هذا التسونامي الذي كان له وقع السحر بالنسبة لحالة تونس حتى أن بعض الأحزاب السياسية والهيئات بما فيها تلك التي تشكل سندا للنظام التونسي مثل الاتحاد العالم للعمال التونسيين، أصبحت تتسابق للحاق بالقطار الذي انطلق به ويكيكليكس.
وقد يطرح السؤال لماذا تتأثر تونس وحدها كل هذا التأثر بتسريبات ويكيليكس دون غيرها من بقية البلدان العربية وبلدان المنطقة التي تشترك معها في نفس الأوضاع، ونفس الأنظمة الفاسدة ونفس الانتهاكات التي تطال حقوق الإنسان، والجواب هو أن القضية قضية وقت وما سيأتي من بقية التسريبات، وإذا تأخرت هذه البلدان عن ركب الموجة فتونس وأحداث تونس بالذات، مهما كانت نتائج هذه الثورة الصغيرة ومواقف التهديد والوعيد للسلطات التونسية مثلما كان موقف الرئيس بن علي أمس، يمكن أن تكون على المدى المنظور قاطرة لجر الآخرين، خاصة وأن الظروف مهيأة ولم تعد البحبوحة الاقتصادية لهؤلاء وأولئك تنفع في استمرار هذه الأوضاع، لأن الفساد هو الفساد ونتائجه هي نفسها في كل بلد.
وحتى وإن كانت نتائج ما يجرى الآن في تونس مرتبطة بمدى صمود آلة القمع التونسية وبالمواقف التي سيتخذها حماة النظام التونسي من الدول الغربية وخاصة فرنسا تجاه هذه الأحداث، فإن الثورة أصبحت في يد التكنولوجيات الحديثة ولم تعد تنتظر القيادات الحزبية ومناوراتها السياسية، ولم يعد تناقل أخبارها عبر العالم ينتظر تحرك الصحافة التقليدية وتوجهاتها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق